يعد فن الرواية من الفنون الأدبية التي تستأثر باهتمام شريحة كبيرة من القراء لأنها ببساطة تتطرق إلى مشكلاتهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعاطفية وحاجاتهم الفطرية، وتفتح أمامهم نوافذ للاطلاع على ثقافات وحضارات الآخر، ناهيك عن أنها مصدر لنقل تجارب وخبرات الكاتب ومكنونات نفسه، فضلا على أنها تكتنز عادة بمعلومات معرفية عن الزمان والمكان والشخوص المتباينة بأساليب سهلة وممتعة ومشوقة.
تاريخيا، شهدت العقود الأولى من القرن العشرين ظهور هذا النوع من الأدب في العالم العربي، وتسيده أدباء من مصر تحديدا ممن تواصلوا مع أوروبا مثل رفاعة الطهطاوي وفرح أنطون وحافظ إبراهيم ومصطفى المنفلوطي ومحمد المويلحي. ثم جاء جيل الروائيين الثاني ممثلا في محمد حسين هيكل (رواية زينب) ومحمود تيمور (رواية رجب أفندي) وجرجي زيدان (رواية المملوك الشارد) وطه حسين (رواية الأيام) وعباس محمود العقاد (رواية سارة)، وتبعهم أعلام الرواية العرب الكبار من أمثال نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف السباعي وإحسان عبدالقدوس ويوسف إدريس ومحمد عبدالحليم عبدالله وإبراهيم المازني ويحيى حقي وصولا إلى عبدالرحمن الشرقاوي وصالح مرسي وغيرهم.
غير أنه بمضي الزمن وانتشار التعليم ووسائط المعرفة وصدور المجلات الأدبية المتخصصة في منطقة الخليج، تغير المشهد وصارت الأخيرة هي مركز الإبداع الروائي في الثقافة العربية، وصار أدباء ومثقفو الخليج يتصدرون قائمة الروائيين العرب ويحصدون جوائز الرواية العربية. حيث راحت الرواية الخليجية، ولا سيما في العقود الأخيرة، تحتل مكانا ثابتا على الخريطة الإبداعية الأدبية في العالم العربي من بعد طول غياب لصالح الشعر، مستلهمة في سردياتها التراث والتحولات الاجتماعية في المنطقة ــ ولاسيما الانتقال من اقتصاد البحر إلى اقتصاد النفط، والتحول من قسوة حياة البادية أو بدائية حياة الريف إلى حياة المدينة وصراعاتها ــ علاوة على تابوهات الجنس والدين والسياسة.
الرواية السعودية
ولعل أكثر المناطق ــ ضمن الخليج العربي ــ التي تصدر فيها الروايات اليوم هي المملكة العربية السعودية، دون التقليل من شأن إصدارات الروائيين في الكويت والبحرين ودولة الإمارات وسلطنة عمان. إذ سبقت السعودية غيرها من دول الخليج في إصدار الروايات منذ عام 1930 حينما أصدر عبدالقدوس الأنصاري رواية «التوأمان»، لتتلوها رواية «فكرة» لأحمد السباعي في عام 1948، قبل أن تنخرط السعوديات من أمثال سميرة خاشقجي (بنت الجزيرة) وهدى الرشيد وهند باغفار في عالم الرواية، وقبل أن تقطع الرواية السعودية أشواطا بعيدة في النضج بدليل حصولها على أكبر الجوائز العربية مثل الجائزة العالمية للرواية العربية التي حصلت عليها رجاء عالم عن روايتها «طوق الحمام»، وعبده خال عن روايته «ترمي بشرر»، ثم بدليل منافستها وحضورها في محافل أدبية عربية وعالمية. وتعد الكويت ثاني قطر خليجي تصدر فيه رواية حينما أصدر فرحان راشد الفرحان روايته «آلام صديق» عام 1948.
وكي نكون منصفين، فإن الكثير من الأعمال الروائية الخليجية التي صدرت في العقود الأخيرة ليست بالمستوى المتوخى بسبب تسرب أسماء شبابية إلى عالمها تحت إغراء البحث عن الشهرة والمال.
مشروع عبده خالويعد الروائي والكاتب السعودي عبده خال أحد أهم الروائيين الخليجيين اليوم، ممن عشقوا هذا الفن الأدبي واستثمروا فيه حكاياتهم ومعاناتهم خلال مراحلهم العمرية المختلفة عبر البوح الجريء واستعادة الماضي بمتعة ذاتية، بل يتميز عن زملائه بأنه صاحب مشروع يسعى إلى أن يكون متكاملا من زاويتي السرد والبحث في الذاكرة الشعبية، مع استعداده لدفع ثمن كتاباته الجريئة المتناغمة مع المتغيرات الهائلة في مجتمعه السعودي والمخالفة للسائد. وبعبارة أخرى فإن عبده خال يستند في سرده الروائي إلى أحداث واقعية وتجارب إنسانية غزيرة مرّ بها خلال مشوار حياته، ما يعطى لأعماله نكهة مختلفة وقيمة إضافية ومصداقية أقوى. ولهذا لم يكن غريبا على خال أن يشدد -في محاضرة له على هامش معرض الشارقة الدولي للكتاب في نوفمبر 2017- على أن الرواية هي «الوعاء الحقيقي لما يدور من تشابكات في المجتمع»، وأن «الرواية لا يمكن أن تكتب في المجتمعات الساكنة» وأن الروائي لا يمكن أن يبدع ويكون ناجحا إلا حينما يبلغ مرحلة العشق الذاتي الجاذب للقراء بمختلف ما يملكونه من وعي، ناصحا من يريد الشهرة من وراء الكتابة الروائية ألا يفعل ذلك. وعلى المنوال نفسه قال في مسامرة احتضنتها قاعة المؤتمرات في مدينة الطيبات العالمية في يوليو 2014 إن المنتجين التجاريين الباحثين عن قصص درامية يريدون من الروائي أن يكون خياطا، والروائي الأصيل لا يقبل أن يكون كذلك.
كائن ليليقدمته الصحفية رانيا مأمون في حوار منشور في صحيفة الأضواء السودانية (17/5/2004) قائلة: «عبده خال اسم يغلق أمامك منافذ تجاوزه في الأدب السعودي، السردي منه خاصة، وهو عوضا عن طاقته الحكائية العالية، وقصصه، وأساطيره الجاثمة بين جمله وفواصله، متحدث لبق يجذبك حسن حديثه وإجاباته المنفتحة والمتفتحة». سألته «من مد لك يد الحكايا، ومن أغواك بنسجه؟»، فأجاب: «حين نتعلم نفقد براءتنا، نفقد الخيال، كنت طالباً يقترب من الهروب مما يُحشى به الرأس وفي كل مرة أجد نفسي منقاداً لاتباع طرق التقنين، في طفولتي الأولى، لم أنقَد لهذا المحو والإحلال، ومع مواصلة القرع كان لا بُدّ للمسمار أن ينغرس في الخشبة وكلما أوغلت في الانغراس اكتشفت أن بين الطرق ولحظة الاستعداد له فضاء يستحق الهروب إليه، من تلك الفرجة تسللت إلى العودة إلى عالم بلا حدود، عالم أن تكون فيه ملكاً وزبالاً في آن، إنه الهروب الدائم، الهروب من رأس المطرقة والإيغال في لحم الخشب». وسأله صاحب برنامج «روافد» من قناة «العربية» الفضائية أحمد علي الزين في فبراير 2007 عن سبب هيامه بالليل أكثر من النهار إلى حد تسميته نفسه الكائن الليلي، فأجاب قائلا: «الليل له كائناته الخاصة به، ربما تستعير من الليل التخفّي، والتخفّي يعطيك أيضاً الرؤية من غير أن يراك أحد، فأنت تكتشف المدينة وهي نائمة والنوم عادةً به فضح للشكل، عندما تكون نائماً أنا أستطيع أن أتأمل في وجهك وأفضح ملامحك التي تريد أن تخبئها في وضح النهار». هذا هو عبده خال.. تسأله سؤالا بسيطا فيرفع في وجهك يافطة إجابات مصاغة كقطعة أدبية جذابة تغري السائل بفتح الباب أمام المزيد من الأسئلة.
من جازان إلى جدة
ولد «عبده محمد علي هادي خال حمدي» الشهير بـ«عبده خال» في الثالث من أغسطس 1962 بقرية المجنة، إحدى قرى جازان في الجنوب السعودي، ابناً لعائلة فقيرة توفي ربها وهو لا يزال طفلا، فعاش يتيما ترعاه أمه التي تشاءمت حين ولادته لأنها فقدت قبله خمسة أبناء بالأوبئة الناجمة من مستنقعات الأمطار ومياه الوديان، الأمر الذي جعل الأم المسكينة تغير اسمه مرتين -وفق العادات الشعبية السائدة- على أمل أن يبقى على قيد الحياة.
قضى أديبنا سنوات طفولته المبكرة في قريته الصغيرة يستظل بظلال وحنان أمه ويتسلى بحكاياتها وحكايات النساء القرويات، ويتلقى الأبجديات الأولى على يد إحداهن. ففي تلك القرية البدائية النائية المنغلقة على نفسها لم يكن أمامه من أدوات التسلية والإطلالة على العالم سوى المذياع الذي ظل يلازمه طويلا. كان يومه طويلا وشاقا ورتيبا لا تقطع رتابته سوى حكايات النساء التي صارت لاحقا مصدرا يغذي قصصه وروايته. ومما لا شك فيه أن هذه الأجواء النسائية كان لها أثر بالغ عليه لجهة عشقه لمجتمع المرأة والكتابة عنه لاحقا بدليل ما قاله في برنامج «روافد» (مصدر سابق): «كنت صغيرا وكانت تخرج من خلال أفواههن حكايات مهولة جدا. وطريقة المرأة في السرد ممتعة للغاية.. فيها تفاصيل أخرى لا يستطيع الرجل أن يقوم بها.. أول ما تأثرت بالمرأة التي تروي».
بسبب قسوة الحياة في جازان حملته أمه على ظهور البغال والحمير إلى ضفاف جدة في رحلة حج وهو في السادسة من عمره، فكانت تلك الرحلة أول خروج له من أسر قريته إلى عالم المدينة الأرحب. بعد فترة اتجهت به أمه إلى الرياض حيث كان يعمل أخوه أحمد، فكانت تلك بمثابة الصدمة الحضارية الثانية في حياته، خصوصا أنه قضى في الرياض عدة سنوات درس خلالها شطرا من مرحلة تعليمه الابتدائي في مدرسة ابن رشد. ومن الرياض انتقل مرة أخرى إلى جدة ليسكن ويكبر في محلة الهندواية ويتعود على صخب المدينة بحياتها المعقدة ومغرياتها الكثيرة وفضاءاتها الواسعة. وهكذا حلّ الطفل القروي الجازاني في جدة، حاملا معه ذكريات القرية وملامح حياتها البسيطة وحكاياتها الكثيرة. قذفت به الحياة إلى هناك دون تخطيط مسبق فترعرع فيها متآلفا مع صخبها وضجيجها وصراعاتها، وراح يصنع لنفسه حياة أخرى مختلفة تماما، حتى صارت جدة جزءا عضويا من كيانه.
كيان جدة والصحافةفي جدة أكمل صاحبنا دراسته في مدرستي «ابن قدامة» و«البحر الأحمر» ثم مدرسة «قريش»، وكانت أمه تتمنى أن يتخرج منها ويصبح مقرئا وإماما ومؤذنا لقريته، فإذا بالحياة تأخذه في اتجاه آخر. فمن بعد إتمامه دراسته الثانوية التحق بجامعة الملك عبدالعزيز ليتخرج فيها عام 1987 حاملا بكالوريوس العلوم السياسية. ومن جدة ولى وجهه صوب الظهران حيث نال فيها دبلوما أهله للالتحاق بسلك التعليم في مدينة عرعر الشمالية. لا شك أن هذه الرحلات والتنقلات المبكرة في حياته مكنته من قراءة الأماكن وأجوائها وتفاصيلها بدقة، بل جعلته أيضا يعشق الروايات والقصص التي تتحدث عن المكان والزمان من تلك الصادرة بأقلام الروائيين المصريين والشوام، ما أثرى مخزونه الثقافي.
دخوله عالم الصحافة كان في عام 1982 حينما شارك في تحرير دورية «الراوي» المختصة بالسرد في الجزيرة العربية الصادرة عن نادي جدة الأدبي، ثم شارك بتحرير مجلة «النص الجديد» المعنية بالأدب الحديث في السعودية، ثم راح يكتب المقالات في مجلات وصحف محلية وعربية مثل «العربي» الكويتية و«أخبار الأدب» المصرية و«نزوى» العمانية وصحيفة «الحياة» اللندنية. غير أن صحيفة «عكاظ» هي التي كانت مدخله إلى الشهرة ككاتب صحافي، وذلك حينما بدأ يكتب بها عمودا يوميا عن قضايا المجتمع قبل أن يصبح مسؤولا عن ملحقها الثقافي. وعن هذا المنعطف من حياته قال إنه كان دائما ينأى بنفسه عن دخول محرقة الصحافة، لكنه أدرك لاحقا أن «الثراء الحقيقي هو أن تكون في معمعة الصحافة اليومية»، وأن «شعور الآخرين بأنك تتحدث بلسانهم يعطيك القاعدة المتسعة». وهكذا، مثلما صارت جدة جزءا من كيانه، صارت الصحافة هي الأخرى كذلك.
بدأ عبده خال خطواته الأولى في عالم الأدب بكتابة خواطر حاول حشرها تحت جناح الشعر لأن الشعر هو أقدم الأجناس الأدبية، ولأن من يريد الانضمام إلى قافلة الأدباء عليه أن يكون شاعرا بحسب تعبيره. لكنه أدرك لاحقا أن الرواية هي المدخل للتعبير عن الأحزان والهموم والمشاعر الإنسانية وقسوة الحياة والقضايا الكبرى، فدخلها، متخصصا في تناول القضايا المسكوت عنها والتعبير عن آلام المهمشين والمطحونين وعذاباتهم «حصان المعركة لا يتذكره التاريخ، فالذي يصنع الحقيقة هؤلاء المهمشون، نحن نسرق ثمرة أتعابهم»، بحسب قوله. وفي هذا السياق نقلت عنه رانيا مأمون (مصدر سابق) قوله: «الحزن الكبير كالحزن الهين، إن المشاعر الإنسانية المؤلمة تكوي أصحابها مهما صغرت. وأنا أقتفي أثر هذه النفس، أتتبع نشيج تلك الأرواح التي تقبع في الهامش، أبحث في جراحها عن آهة صغيرة.. هل تعلمين -يا سيدتي- أن الآهات الصغيرة جاءت من مجرى سيل ضخم يسمى السياسة أو من فوهة بركان يسمى القضايا الكبرى.. إن الأشياء الصغيرة تتفرع من الكوارث الكبيرة حتى تصل إلينا كنتف صغيرة ربما لا يتنبه لها المهمشون، إنها قطرة دم تمَّ إيصالها إلى مخادعهم بطريقة سرية أو بطريقة علنية لتعلن لهم ألا أحد يبتعد من نيران الكبار».
تاريخيا، شهدت العقود الأولى من القرن العشرين ظهور هذا النوع من الأدب في العالم العربي، وتسيده أدباء من مصر تحديدا ممن تواصلوا مع أوروبا مثل رفاعة الطهطاوي وفرح أنطون وحافظ إبراهيم ومصطفى المنفلوطي ومحمد المويلحي. ثم جاء جيل الروائيين الثاني ممثلا في محمد حسين هيكل (رواية زينب) ومحمود تيمور (رواية رجب أفندي) وجرجي زيدان (رواية المملوك الشارد) وطه حسين (رواية الأيام) وعباس محمود العقاد (رواية سارة)، وتبعهم أعلام الرواية العرب الكبار من أمثال نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف السباعي وإحسان عبدالقدوس ويوسف إدريس ومحمد عبدالحليم عبدالله وإبراهيم المازني ويحيى حقي وصولا إلى عبدالرحمن الشرقاوي وصالح مرسي وغيرهم.
غير أنه بمضي الزمن وانتشار التعليم ووسائط المعرفة وصدور المجلات الأدبية المتخصصة في منطقة الخليج، تغير المشهد وصارت الأخيرة هي مركز الإبداع الروائي في الثقافة العربية، وصار أدباء ومثقفو الخليج يتصدرون قائمة الروائيين العرب ويحصدون جوائز الرواية العربية. حيث راحت الرواية الخليجية، ولا سيما في العقود الأخيرة، تحتل مكانا ثابتا على الخريطة الإبداعية الأدبية في العالم العربي من بعد طول غياب لصالح الشعر، مستلهمة في سردياتها التراث والتحولات الاجتماعية في المنطقة ــ ولاسيما الانتقال من اقتصاد البحر إلى اقتصاد النفط، والتحول من قسوة حياة البادية أو بدائية حياة الريف إلى حياة المدينة وصراعاتها ــ علاوة على تابوهات الجنس والدين والسياسة.
الرواية السعودية
ولعل أكثر المناطق ــ ضمن الخليج العربي ــ التي تصدر فيها الروايات اليوم هي المملكة العربية السعودية، دون التقليل من شأن إصدارات الروائيين في الكويت والبحرين ودولة الإمارات وسلطنة عمان. إذ سبقت السعودية غيرها من دول الخليج في إصدار الروايات منذ عام 1930 حينما أصدر عبدالقدوس الأنصاري رواية «التوأمان»، لتتلوها رواية «فكرة» لأحمد السباعي في عام 1948، قبل أن تنخرط السعوديات من أمثال سميرة خاشقجي (بنت الجزيرة) وهدى الرشيد وهند باغفار في عالم الرواية، وقبل أن تقطع الرواية السعودية أشواطا بعيدة في النضج بدليل حصولها على أكبر الجوائز العربية مثل الجائزة العالمية للرواية العربية التي حصلت عليها رجاء عالم عن روايتها «طوق الحمام»، وعبده خال عن روايته «ترمي بشرر»، ثم بدليل منافستها وحضورها في محافل أدبية عربية وعالمية. وتعد الكويت ثاني قطر خليجي تصدر فيه رواية حينما أصدر فرحان راشد الفرحان روايته «آلام صديق» عام 1948.
وكي نكون منصفين، فإن الكثير من الأعمال الروائية الخليجية التي صدرت في العقود الأخيرة ليست بالمستوى المتوخى بسبب تسرب أسماء شبابية إلى عالمها تحت إغراء البحث عن الشهرة والمال.
مشروع عبده خالويعد الروائي والكاتب السعودي عبده خال أحد أهم الروائيين الخليجيين اليوم، ممن عشقوا هذا الفن الأدبي واستثمروا فيه حكاياتهم ومعاناتهم خلال مراحلهم العمرية المختلفة عبر البوح الجريء واستعادة الماضي بمتعة ذاتية، بل يتميز عن زملائه بأنه صاحب مشروع يسعى إلى أن يكون متكاملا من زاويتي السرد والبحث في الذاكرة الشعبية، مع استعداده لدفع ثمن كتاباته الجريئة المتناغمة مع المتغيرات الهائلة في مجتمعه السعودي والمخالفة للسائد. وبعبارة أخرى فإن عبده خال يستند في سرده الروائي إلى أحداث واقعية وتجارب إنسانية غزيرة مرّ بها خلال مشوار حياته، ما يعطى لأعماله نكهة مختلفة وقيمة إضافية ومصداقية أقوى. ولهذا لم يكن غريبا على خال أن يشدد -في محاضرة له على هامش معرض الشارقة الدولي للكتاب في نوفمبر 2017- على أن الرواية هي «الوعاء الحقيقي لما يدور من تشابكات في المجتمع»، وأن «الرواية لا يمكن أن تكتب في المجتمعات الساكنة» وأن الروائي لا يمكن أن يبدع ويكون ناجحا إلا حينما يبلغ مرحلة العشق الذاتي الجاذب للقراء بمختلف ما يملكونه من وعي، ناصحا من يريد الشهرة من وراء الكتابة الروائية ألا يفعل ذلك. وعلى المنوال نفسه قال في مسامرة احتضنتها قاعة المؤتمرات في مدينة الطيبات العالمية في يوليو 2014 إن المنتجين التجاريين الباحثين عن قصص درامية يريدون من الروائي أن يكون خياطا، والروائي الأصيل لا يقبل أن يكون كذلك.
كائن ليليقدمته الصحفية رانيا مأمون في حوار منشور في صحيفة الأضواء السودانية (17/5/2004) قائلة: «عبده خال اسم يغلق أمامك منافذ تجاوزه في الأدب السعودي، السردي منه خاصة، وهو عوضا عن طاقته الحكائية العالية، وقصصه، وأساطيره الجاثمة بين جمله وفواصله، متحدث لبق يجذبك حسن حديثه وإجاباته المنفتحة والمتفتحة». سألته «من مد لك يد الحكايا، ومن أغواك بنسجه؟»، فأجاب: «حين نتعلم نفقد براءتنا، نفقد الخيال، كنت طالباً يقترب من الهروب مما يُحشى به الرأس وفي كل مرة أجد نفسي منقاداً لاتباع طرق التقنين، في طفولتي الأولى، لم أنقَد لهذا المحو والإحلال، ومع مواصلة القرع كان لا بُدّ للمسمار أن ينغرس في الخشبة وكلما أوغلت في الانغراس اكتشفت أن بين الطرق ولحظة الاستعداد له فضاء يستحق الهروب إليه، من تلك الفرجة تسللت إلى العودة إلى عالم بلا حدود، عالم أن تكون فيه ملكاً وزبالاً في آن، إنه الهروب الدائم، الهروب من رأس المطرقة والإيغال في لحم الخشب». وسأله صاحب برنامج «روافد» من قناة «العربية» الفضائية أحمد علي الزين في فبراير 2007 عن سبب هيامه بالليل أكثر من النهار إلى حد تسميته نفسه الكائن الليلي، فأجاب قائلا: «الليل له كائناته الخاصة به، ربما تستعير من الليل التخفّي، والتخفّي يعطيك أيضاً الرؤية من غير أن يراك أحد، فأنت تكتشف المدينة وهي نائمة والنوم عادةً به فضح للشكل، عندما تكون نائماً أنا أستطيع أن أتأمل في وجهك وأفضح ملامحك التي تريد أن تخبئها في وضح النهار». هذا هو عبده خال.. تسأله سؤالا بسيطا فيرفع في وجهك يافطة إجابات مصاغة كقطعة أدبية جذابة تغري السائل بفتح الباب أمام المزيد من الأسئلة.
من جازان إلى جدة
ولد «عبده محمد علي هادي خال حمدي» الشهير بـ«عبده خال» في الثالث من أغسطس 1962 بقرية المجنة، إحدى قرى جازان في الجنوب السعودي، ابناً لعائلة فقيرة توفي ربها وهو لا يزال طفلا، فعاش يتيما ترعاه أمه التي تشاءمت حين ولادته لأنها فقدت قبله خمسة أبناء بالأوبئة الناجمة من مستنقعات الأمطار ومياه الوديان، الأمر الذي جعل الأم المسكينة تغير اسمه مرتين -وفق العادات الشعبية السائدة- على أمل أن يبقى على قيد الحياة.
قضى أديبنا سنوات طفولته المبكرة في قريته الصغيرة يستظل بظلال وحنان أمه ويتسلى بحكاياتها وحكايات النساء القرويات، ويتلقى الأبجديات الأولى على يد إحداهن. ففي تلك القرية البدائية النائية المنغلقة على نفسها لم يكن أمامه من أدوات التسلية والإطلالة على العالم سوى المذياع الذي ظل يلازمه طويلا. كان يومه طويلا وشاقا ورتيبا لا تقطع رتابته سوى حكايات النساء التي صارت لاحقا مصدرا يغذي قصصه وروايته. ومما لا شك فيه أن هذه الأجواء النسائية كان لها أثر بالغ عليه لجهة عشقه لمجتمع المرأة والكتابة عنه لاحقا بدليل ما قاله في برنامج «روافد» (مصدر سابق): «كنت صغيرا وكانت تخرج من خلال أفواههن حكايات مهولة جدا. وطريقة المرأة في السرد ممتعة للغاية.. فيها تفاصيل أخرى لا يستطيع الرجل أن يقوم بها.. أول ما تأثرت بالمرأة التي تروي».
بسبب قسوة الحياة في جازان حملته أمه على ظهور البغال والحمير إلى ضفاف جدة في رحلة حج وهو في السادسة من عمره، فكانت تلك الرحلة أول خروج له من أسر قريته إلى عالم المدينة الأرحب. بعد فترة اتجهت به أمه إلى الرياض حيث كان يعمل أخوه أحمد، فكانت تلك بمثابة الصدمة الحضارية الثانية في حياته، خصوصا أنه قضى في الرياض عدة سنوات درس خلالها شطرا من مرحلة تعليمه الابتدائي في مدرسة ابن رشد. ومن الرياض انتقل مرة أخرى إلى جدة ليسكن ويكبر في محلة الهندواية ويتعود على صخب المدينة بحياتها المعقدة ومغرياتها الكثيرة وفضاءاتها الواسعة. وهكذا حلّ الطفل القروي الجازاني في جدة، حاملا معه ذكريات القرية وملامح حياتها البسيطة وحكاياتها الكثيرة. قذفت به الحياة إلى هناك دون تخطيط مسبق فترعرع فيها متآلفا مع صخبها وضجيجها وصراعاتها، وراح يصنع لنفسه حياة أخرى مختلفة تماما، حتى صارت جدة جزءا عضويا من كيانه.
كيان جدة والصحافةفي جدة أكمل صاحبنا دراسته في مدرستي «ابن قدامة» و«البحر الأحمر» ثم مدرسة «قريش»، وكانت أمه تتمنى أن يتخرج منها ويصبح مقرئا وإماما ومؤذنا لقريته، فإذا بالحياة تأخذه في اتجاه آخر. فمن بعد إتمامه دراسته الثانوية التحق بجامعة الملك عبدالعزيز ليتخرج فيها عام 1987 حاملا بكالوريوس العلوم السياسية. ومن جدة ولى وجهه صوب الظهران حيث نال فيها دبلوما أهله للالتحاق بسلك التعليم في مدينة عرعر الشمالية. لا شك أن هذه الرحلات والتنقلات المبكرة في حياته مكنته من قراءة الأماكن وأجوائها وتفاصيلها بدقة، بل جعلته أيضا يعشق الروايات والقصص التي تتحدث عن المكان والزمان من تلك الصادرة بأقلام الروائيين المصريين والشوام، ما أثرى مخزونه الثقافي.
دخوله عالم الصحافة كان في عام 1982 حينما شارك في تحرير دورية «الراوي» المختصة بالسرد في الجزيرة العربية الصادرة عن نادي جدة الأدبي، ثم شارك بتحرير مجلة «النص الجديد» المعنية بالأدب الحديث في السعودية، ثم راح يكتب المقالات في مجلات وصحف محلية وعربية مثل «العربي» الكويتية و«أخبار الأدب» المصرية و«نزوى» العمانية وصحيفة «الحياة» اللندنية. غير أن صحيفة «عكاظ» هي التي كانت مدخله إلى الشهرة ككاتب صحافي، وذلك حينما بدأ يكتب بها عمودا يوميا عن قضايا المجتمع قبل أن يصبح مسؤولا عن ملحقها الثقافي. وعن هذا المنعطف من حياته قال إنه كان دائما ينأى بنفسه عن دخول محرقة الصحافة، لكنه أدرك لاحقا أن «الثراء الحقيقي هو أن تكون في معمعة الصحافة اليومية»، وأن «شعور الآخرين بأنك تتحدث بلسانهم يعطيك القاعدة المتسعة». وهكذا، مثلما صارت جدة جزءا من كيانه، صارت الصحافة هي الأخرى كذلك.
بدأ عبده خال خطواته الأولى في عالم الأدب بكتابة خواطر حاول حشرها تحت جناح الشعر لأن الشعر هو أقدم الأجناس الأدبية، ولأن من يريد الانضمام إلى قافلة الأدباء عليه أن يكون شاعرا بحسب تعبيره. لكنه أدرك لاحقا أن الرواية هي المدخل للتعبير عن الأحزان والهموم والمشاعر الإنسانية وقسوة الحياة والقضايا الكبرى، فدخلها، متخصصا في تناول القضايا المسكوت عنها والتعبير عن آلام المهمشين والمطحونين وعذاباتهم «حصان المعركة لا يتذكره التاريخ، فالذي يصنع الحقيقة هؤلاء المهمشون، نحن نسرق ثمرة أتعابهم»، بحسب قوله. وفي هذا السياق نقلت عنه رانيا مأمون (مصدر سابق) قوله: «الحزن الكبير كالحزن الهين، إن المشاعر الإنسانية المؤلمة تكوي أصحابها مهما صغرت. وأنا أقتفي أثر هذه النفس، أتتبع نشيج تلك الأرواح التي تقبع في الهامش، أبحث في جراحها عن آهة صغيرة.. هل تعلمين -يا سيدتي- أن الآهات الصغيرة جاءت من مجرى سيل ضخم يسمى السياسة أو من فوهة بركان يسمى القضايا الكبرى.. إن الأشياء الصغيرة تتفرع من الكوارث الكبيرة حتى تصل إلينا كنتف صغيرة ربما لا يتنبه لها المهمشون، إنها قطرة دم تمَّ إيصالها إلى مخادعهم بطريقة سرية أو بطريقة علنية لتعلن لهم ألا أحد يبتعد من نيران الكبار».