ali_makki2@
يعمل أستاذاً للفلسفة والدراسات بجامعة نواكشوط الموريتانية منذ عام 1989حتى الآن، إضافة إلى عمله أستاذاً زائراً في جامعات عربية ودولية عدة، إذ يقوم بتدريس الفلسفة الحديثة وفلسفة الأخلاق والسياسة والدين وفلسفة القانون وعلم الكلام والفلسفة الإسلامية وفلسفة الاتصال وعلوم الإعلام. إلى جانب إشرافه على إعداد مدرسي التعليم الثانوي في الفلسفة والعلوم الاجتماعية، وإشرافه على عشرات الأطروحات والرسائل الجامعية. مع عمله منسقاً لبرامج الثقافة العربية الإسلامية وحوار الحضارات (الألكسو من سنة 2001إلى 2005)، ومستشاراً في المجلس الأعلى للاتصال (2006 - 2011)، وخبيراً في التنمية البشرية معتمداً لدى الأمم المتحدة، وأميناً عاماً للجمعية الموريتانية للدراسات الفلسفية، إضافة إلى كونه كاتباً لمقالة فكرية أسبوعية (في صحيفتي الشرق الأوسط في الفترة 1993 - 2010، والاتحاد الإماراتية منذ عام 2009حتى الآن).
إنه الدكتور عبدالله السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني المعروف، صاحب كتب: التاريخ والحقيقة لدى فوكو، واتجاهات العولمة، ومستقبل إسرائيل وأزمة المشروع الصهيوني (بالاشتراك)، وعالم ما بعد 11 سبتمبر، وعوائق التحول الديموقراطي في الوطن العربي، وبؤس الرفاهية (ترجمة من الفرنسية)، والدين والهوية، والثورات العربية الجديدة: المسار والمصير، والإسلام والمجتمع المفتوح (ترجمة)، والمسألة الدينية السياسية في الفكر الغربي الحديث (تحت الطبع)، إضافة إلى عشرات الأبحاث والمقالات المنشورة في الدوريات العربية.واحدٌ بهذه السيرة الثرية كان هدفاً مهماً لــ«عكاظ» التي حاورته وخرجت منه بهذا اللقاء المتنوع بين الفلسفة والسياسة والدين والثورة.. فإلى نص الحوار:
• يتضح لمتابعيك إعجابك الشديد بأفلاطون من خلال (بايو) حسابك في تويتر.. هل هذا يلغي المؤسس الحقيقي سقراط؟
•• سقراط فضلا عن كونه شخصية تاريخية، إلا أننا لا نعرفه إلا من خلال تلميذه أفلاطون، فهو من هذا المنظور «شخصية نظرية» يؤدي دورا محوريا في فلسفة أفلاطون التي هي في مجملها محاورات بطلها سقراط. كل فلسفة أفلاطون هي احتجاج على إعدام سقراط الرجل الذي وصفه بأنه أعدل الناس، ومحاولة لوضع نظرية في العدالة تخرج المدينة من الاختلال والظلم، وهي المدينة التي يتصورها الفيلسوف ويضع نظامها. بيد أن إفلاطون أقر في نهاية المطاف بمأزق مشروعه، فالمدينة العادلة هي التي يحكمها الفلاسفة، إلا أن الفلاسفة لا يمكن أن ينشأوا إلا في المدينة العادلة، ومن هنا اعتبر أن حل هذه المعضلة لا يكون إلا بمعجزة تحول الحكام إلى فلاسفة أو تحول الفلاسفة إلى حكام.
اللاهوتية المعلمنة
• تقول: «إن ما يطلق عليه مسار علمنة الدولة لم يكن قطيعة مع الدين وإنما هو ترجمة للمضامين القيمية الدينية بلغة العقل العمومي، بالرجوع إلى الثوابت المقصدية الكبرى لديانة التوحيد التي قال الإمام الشاطبي إنها مشتركة بين الملل، ولذا فلا معنى للنقاش حول شرعيتها الدينية».. ماذا تقصد بإعادة تأسيس الدولة الوطنية؟ هل هو رجوع إلى القومية العربية مثلاً؟ وهل ترى ضرورة تغيير الدولة الدينية إلى دولة وطنية حديثة؟ وهل تعتقد أن هذا الانتقال سوف يكون يسيراً في بعض دول العالم الثالث؟
•• ما أردت أن أبينه هو أن النقاش الجاري حول العلمانية الذي يتركز حول شرعية الدولة من المنظور الديني هو نقاش ملغوم يقوم على مسلمات زائفة. أهم هذه المسلمات هو اعتبار أن الدولة الوطنية الحديثة في نموذجها الأصلي (النموذج الأوروبي) هي دولة معادية للدين وقامت على القطيعة معه، ومن ثم ضرورة أسلمتها بتطبيق الشريعة الإسلامية في مختلف مناحي الشأن العام. الحقيقة هي أن هذه الدولة التي تتميز بالسمة المركزية والشمولية وبجهازها البيروقراطي الإداري قامت في علاقتها بالدين على مبدأين هما من جهة استيعاب المضامين القيمية العميقة في الدين ونظامه التدبيري للذات والمجموعة، ومن جهة أخرى ضبط التعددية الدينية من خلال حياد الدولة إزاء الاعتقادات الجوهرية المتعلقة بالوعي والضمير الفردي. في المستوى الأول، نفهم عبارة كارل شميت: «المقولات السياسية الحديثة مثل السيادة والتمثيل مقولات لاهوتية معلمنة»، كما نفهم كيف انتقلت أنماط تدبير الضمير الكنسي إلى جوهر الفعل السياسي الحديث كما بين «ميشال فوكو»، وفي المستوى الثاني نفهم كيف أن النظم القانونية التي تبلورت لفصل المؤسسة الدينية عن المؤسسة السياسية اقتضتها ضرورات الخروج من الحروب الدينية التي مزقت أوروبا بعد مرحلة الإصلاح البروتستانتي ولم تكن في ذاتها معادية للدين بل الغرض منها حماية الدين. وكما هو معروف لكل بلد غربي طريقته الخاصة في ترجمة هذه المبادئ، والفرق واسع بين بلدان تنص دساتيرها على الديانة الرسمية للدولة، وبلدان أخرى تحمي فيها الدولة التقاليد الدينية وتمول فيها العمل الديني الاجتماعي والتعليمي، وهناك دول أخرى (مثل الولايات المتحدة) تتبنى خيار «الديانة المدنية» التي هي نمط من الهوية الجماعية المؤسسة على ديانة عامة مشتركة.
حركات الإسلام السياسي إذ تطالب بأسلمة الدولة الوطنية لا تدرك هذه الأبعاد العميقة، وكل ما تفعله هو تحويل الإسلام الى أيديولوجيا لهذه الدولة، بما يعني نزع الطابع القداسي المطلق فيه وبذا فهي تندرج في سياق علماني ملتبس غير واع.
• في المقال ذاته امتدحت العلمانية، علمانية الغرب تحديداً، كأنما تراها تنبع من الدين ذاته.. من أي فلسفة انطلقت هنا؟ وهل كلامك هذا هو نفس كلام الإمام محمد عبده «وجدت في الغرب إسلاماً بلا مسلمين، وهنا مسلمين بلا إسلام» وإن بشكل آخر؟
•• من يقرأ النصوص الفلسفية الكبرى للحداثة السياسية الأوروبية مثل نصوص سبينوزا وهوبز وروسو وكانط يدرك تلك الحقيقة، أي كون مشروع الحداثة السياسية قام على فكرة ترجمة المضامين القيمية الجوهرية في الدين في لغة العقل العمومي التي هي لغة عقلانية قانونية.
ما يقوله كل هؤلاء هو ما عبر عنه هيغل بضرورة تحويل الدولة الحديثة إلى مطلق يجسد أهداف الدين وتطلعاته في الخير والعدل، ولا شك أن الدولة الليبرالية الحديثة في الغرب نجحت إلى حد بعيد في هذه الأهداف التي هي مقاصد الدين العليا التي قال الإمام الشاطبي إنها مشتركة بين كل الملل وهي جلية ناصعة في الإسلام. ولعل ما يعزى للإمام محمد عبده يدخل في هذا الاتجاه، مع العلم أن رواد الإصلاح الإسلامي مثل الأفغاني وعبده والكواكبي ومحمد إقبال لم يعنوا بموضوع الشرعية الدينية للدولة الحديثة بل وجدوا فيها النموذج الذي يتعين اعتماده لخروج الأمة من الانحطاط والاستبداد والتخلف.
الثورة المحافظة
• في تويتر لا تحضر آراؤك كثيراً، فقط تغرد بمقالاتك وأحياناً تعيد تغريدات تهاجم الإخوان المسلمين مثلاً؟ في اعتقادك ما هو مأزق الإخوان؟ وكيف تحلل تجربتهم الدينية والسياسية؟
•• لا أفهم تويتر بأنه بديل عن المقالات والدراسات، بل هو مجال تواصلي محدود لعرض فكرة أو الإشارة إلى كتاب أو التعليق على حدث. كما أنني لست من كبار المغردين، وإنما أهمل الشبكة فترات طويلة وأعود إليها في لحظات متقطعة متباعدة. أما تحليل تجربة الإخوان وإبراز سلبياتها فأمر يحتاج إلى مساحة طويلة، وقد خصصت للموضوع كتابات وأبحاثاً مستفيضة. وعلى العموم، ما يتعين التأكيد عليه هو أن الأيديولوجيا الإخوانية قامت على خلل جوهري في التصور هو فكرة أدلجة الإسلام من منطلق شعار «الإسلام دين ودولة» الذي هو الشعار الناظم لكل أفكار الإخوان. المشكل في هذا التصور هو إحداث خلخلة خطيرة في التقليد الإسلامي بجعل الدولة شرطا في هوية الدين ومقوما من مقوماته العقدية والتشريعية، والحال أنها مجرد مؤسسة تدبيرية مصلحية تحتكر القوة العمومية وتحفظ السلم والأمن.
الخطأ الكبير في المقاربات الإخوانية هو فهم مصطلح «الإمامة» وهو مصطلح كلامي فقهي بأنه المرادف للدولة الوطنية الحديثة، في حين أنه في دلالاته العقدية العميقة يتعلق بالمثال القيمي الأعلى غير قابل للتجسد سياسيا وفي دلالته التاريخية التي قننتها أدبيات الأحكام السلطانية يتلخص في إمارة التغلب الضامنة للسلم الأهلي، ومن هنا ملاحظة المفكر المغربي «عبدالله العروي» أن الفقهاء كانوا شديدي الواقعية والبرغماتية وحين يتحدثون عن الخلافة يعتبرونها حالة طوبائية تنتمي للماضي ولا يمكن أن تتحقق بأدوات وموازين بشرية. إن هذا الخلل في التصور والفكر هو الذي يفسر الأخطاء السياسية للإخوان الذين ناصبوا الدولة العداء ورفعوا عليها السلاح وانتهوا أحيانا الى تكفير الحكومات والخروج على المجتمعات، بما هو بارز في الكثير من الساحات العربية.
• تساءلت: هل ما نعيشه هو (موت السياسة) حسب تشخيص ريجيس دوبريه، الذي يعرف السياسة بأنها الخروج من الطبيعة ودخول أفق التاريخ؟ وهل نشهد مساراً مضاداً بعودة السياسة إلى الطبيعة أي إلى الهويات الضيقة المغلقة كما يظهر من صعود الاتجاهات والنزعات اليمينية المحافظة؟ هل تشير هنا إلى صعود التنظيميات المتشددة إلى المشهد ورميها أحجاراً كبيرة في عمق المشهد؟
•• الخروج من الطبيعة واستكشاف أفق التاريخ هو المعين الذي انبثقت منه السياسة بمفهومها الحديث الذي يعني بناء حالة إنسانية منظمة عقليا وقائمة على حرية الإرادة وفاعليتها في مقابل الهويات العضوية القبلية مثل العصبيات القبلية والفئوية والعرقية. الفكرة المؤطرة لهذا التصور هي الإيمان بقدرة الإنسان على تجاوز طبيعته الأنانية واختيار هويته الذاتية، والأفق الذي يندرج فيه هو أفق التقدم الإنساني أي الرهان على المستقبل وحركية التاريخ الإيجابية. ما نلمسه اليوم هو بروز «ثورة محافظة» في قطيعة مع قيم التنوير والتقدم تنكص بالإنسان إلى هوياته الضيقة من خلال الأيديولوجيات العنصرية والنزعات الدينية الراديكالية ونظريات صراع الثقافات والديانات. ظاهرة ترمب في الولايات المتحدة وصعود اليمين المتشدد في أوروبا هي مظاهر لهذه النزعات العدمية التي أعتقد أنها ستفشل في نهاية المطاف. ولعل أصدق تعبير عنها هو قول الفيلسوف الألماني بتر سلوتردايك إن الناخبين الغربيين اختاروا هذه الزعامات الشعبوية بدلا من السياسيين التقليديين على غرار مرضى السرطان في مراحله المتأخرة الذين فقدوا الثقة في الطب وأصبحوا يفتشون عن الوصفات السحرية الخارقة وإن كانوا في قرارة أنفسهم لا يصدقون أولئك المشعوذين.
• تقول الدكتورة لطيفة الشعلان: «يبذل البعض (جهدا خرافيا) حتى لا يُصنفوا ليبراليين». ألا ترى أن كل مشكلتنا هي مع الأسماء كمصطلحات؟ هل هناك إسلام ليبراليّ؟
•• الليبرالية مصطلح ملغوم في الساحة العربية خصوصا في الخليج العربي، ولقد ضاعت دلالته عمليا نتيجة للتراشق الأيديولوجي السائد. لا أفهم كيف يمكن أن تتعارض الليبرالية مع الإسلام، باعتبار أن الليبرالية تعني في دلالتها الواسعة (على اختلاف اتجاهاتها ومناحيها) تأكيد الحرية الإنسانية وما يترتب عليها من حقوق ثابتة للإنسان من حيث وعيه وكرامته وملكيته ومشاركته في الشأن العمومي.
بعض المتعصبين يحارب الأفكار الليبرالية باتهامها بالخروج عن التقليد الديني والاجتماعي في حين أن هذا التقليد هو نتاج ممارسة تأويلية تاريخية ولا يتماهى مع الدين في أبعاده المطلقة الثابتة، والبعض الآخر يحارب الليبرالية من منطلق رافض للتعددية الفكرية التي أصبحت واقعا راسخا في المجتمعات المسلمة المعاصرة ولا بد من الاعتراف بها وتنظيمها صونا للسلم الأهلي وحفاظا على الدين نفسه.
الحداثة الثانية
• هل يمكنك أن تفسر لنا وجهة نظرك في انهيار العولمة مع إعجابك الواضح بالثورة المحافظة في الغرب؟
•• لست معجبا بالثورة المحافظة في الغرب، بل كتبت في نقدها واعتبرتها حركية نكوصية غير قابلة للنجاح والاستمرار. ما دامت العولمة هي التعبير التاريخي عن موجة الحداثة الثانية، التي ولدت أنماط عيش وطرق اندماج لم يعد بالإمكان ضبطها بمنطق الاقتصاد الرأسمالي التقليدي وإجراءات الحكامة السياسية السابقة، ومن هنا طبيعة الأزمة المجتمعية العميقة التي تعيشها المجتمعات الصناعية التي لا تزال تدار وفق مسالك وأساليب الحداثة الأولى. وهكذا بدلا من التفكير في إبداع أدوات جديدة للسيادة والتمثيل وأنماط تدبير جديد للجغرافية السياسية وأدوات ضبط للعولمة المالية، برزت الحركات المحافظة الجديدة التي تنزع الى كبح حركية التبادل الكوني وحماية الهويات الوطنية وهي حركات مناوئة للعولمة ولا أظن أنها ستحقق أي نتائج نوعية.
• مع وصول ترمب إلى البيت الأبيض.. ماذا تتوقع للسياسة الأمريكية القادمة؟ خصوصا تجاه المنطقة العربية؟
•• من الصعب التنبؤ بسياسة الرئيس الأمريكي الجديد القادم من خارج المؤسسة السياسية التقليدية، الذي أطلق في حملته الانتخابية وعودا شديدة التعارض. العرب إزاء الرئيس الجديد في وضع مزدوج: الارتياح لانتهاء حقبة «أوباما» التي قوضت ثوابت السياسة الشرق أوسطية الأمريكية (الاعتماد على محور الاعتدال العربي، عزل إيران...) وفشلت في دفع عملية السلام الشرق أوسطية وخذلت الثورة السورية، والخوف من سياسات ترمب الموالية لليمين الإسرائيلي المتطرف والنزعة المعادية للإسلام والمسلمين في بعض تصريحاته وتصريحات فريقه. وعلى العموم لا بد أن ندرك أن النظام السياسي الأمريكي قائم على توازنات دقيقة ومراكز قوة مانعة لأي تحكم فردي، فضلا عن المعطيات الجيوسياسية الموضوعية الحاسمة في صناعة القرار وفي رسم السياسة الخارجية للبلد التي عادة لا تتغير جوهريا بتغيّر أنظمة الحكم.
يعمل أستاذاً للفلسفة والدراسات بجامعة نواكشوط الموريتانية منذ عام 1989حتى الآن، إضافة إلى عمله أستاذاً زائراً في جامعات عربية ودولية عدة، إذ يقوم بتدريس الفلسفة الحديثة وفلسفة الأخلاق والسياسة والدين وفلسفة القانون وعلم الكلام والفلسفة الإسلامية وفلسفة الاتصال وعلوم الإعلام. إلى جانب إشرافه على إعداد مدرسي التعليم الثانوي في الفلسفة والعلوم الاجتماعية، وإشرافه على عشرات الأطروحات والرسائل الجامعية. مع عمله منسقاً لبرامج الثقافة العربية الإسلامية وحوار الحضارات (الألكسو من سنة 2001إلى 2005)، ومستشاراً في المجلس الأعلى للاتصال (2006 - 2011)، وخبيراً في التنمية البشرية معتمداً لدى الأمم المتحدة، وأميناً عاماً للجمعية الموريتانية للدراسات الفلسفية، إضافة إلى كونه كاتباً لمقالة فكرية أسبوعية (في صحيفتي الشرق الأوسط في الفترة 1993 - 2010، والاتحاد الإماراتية منذ عام 2009حتى الآن).
إنه الدكتور عبدالله السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني المعروف، صاحب كتب: التاريخ والحقيقة لدى فوكو، واتجاهات العولمة، ومستقبل إسرائيل وأزمة المشروع الصهيوني (بالاشتراك)، وعالم ما بعد 11 سبتمبر، وعوائق التحول الديموقراطي في الوطن العربي، وبؤس الرفاهية (ترجمة من الفرنسية)، والدين والهوية، والثورات العربية الجديدة: المسار والمصير، والإسلام والمجتمع المفتوح (ترجمة)، والمسألة الدينية السياسية في الفكر الغربي الحديث (تحت الطبع)، إضافة إلى عشرات الأبحاث والمقالات المنشورة في الدوريات العربية.واحدٌ بهذه السيرة الثرية كان هدفاً مهماً لــ«عكاظ» التي حاورته وخرجت منه بهذا اللقاء المتنوع بين الفلسفة والسياسة والدين والثورة.. فإلى نص الحوار:
• يتضح لمتابعيك إعجابك الشديد بأفلاطون من خلال (بايو) حسابك في تويتر.. هل هذا يلغي المؤسس الحقيقي سقراط؟
•• سقراط فضلا عن كونه شخصية تاريخية، إلا أننا لا نعرفه إلا من خلال تلميذه أفلاطون، فهو من هذا المنظور «شخصية نظرية» يؤدي دورا محوريا في فلسفة أفلاطون التي هي في مجملها محاورات بطلها سقراط. كل فلسفة أفلاطون هي احتجاج على إعدام سقراط الرجل الذي وصفه بأنه أعدل الناس، ومحاولة لوضع نظرية في العدالة تخرج المدينة من الاختلال والظلم، وهي المدينة التي يتصورها الفيلسوف ويضع نظامها. بيد أن إفلاطون أقر في نهاية المطاف بمأزق مشروعه، فالمدينة العادلة هي التي يحكمها الفلاسفة، إلا أن الفلاسفة لا يمكن أن ينشأوا إلا في المدينة العادلة، ومن هنا اعتبر أن حل هذه المعضلة لا يكون إلا بمعجزة تحول الحكام إلى فلاسفة أو تحول الفلاسفة إلى حكام.
اللاهوتية المعلمنة
• تقول: «إن ما يطلق عليه مسار علمنة الدولة لم يكن قطيعة مع الدين وإنما هو ترجمة للمضامين القيمية الدينية بلغة العقل العمومي، بالرجوع إلى الثوابت المقصدية الكبرى لديانة التوحيد التي قال الإمام الشاطبي إنها مشتركة بين الملل، ولذا فلا معنى للنقاش حول شرعيتها الدينية».. ماذا تقصد بإعادة تأسيس الدولة الوطنية؟ هل هو رجوع إلى القومية العربية مثلاً؟ وهل ترى ضرورة تغيير الدولة الدينية إلى دولة وطنية حديثة؟ وهل تعتقد أن هذا الانتقال سوف يكون يسيراً في بعض دول العالم الثالث؟
•• ما أردت أن أبينه هو أن النقاش الجاري حول العلمانية الذي يتركز حول شرعية الدولة من المنظور الديني هو نقاش ملغوم يقوم على مسلمات زائفة. أهم هذه المسلمات هو اعتبار أن الدولة الوطنية الحديثة في نموذجها الأصلي (النموذج الأوروبي) هي دولة معادية للدين وقامت على القطيعة معه، ومن ثم ضرورة أسلمتها بتطبيق الشريعة الإسلامية في مختلف مناحي الشأن العام. الحقيقة هي أن هذه الدولة التي تتميز بالسمة المركزية والشمولية وبجهازها البيروقراطي الإداري قامت في علاقتها بالدين على مبدأين هما من جهة استيعاب المضامين القيمية العميقة في الدين ونظامه التدبيري للذات والمجموعة، ومن جهة أخرى ضبط التعددية الدينية من خلال حياد الدولة إزاء الاعتقادات الجوهرية المتعلقة بالوعي والضمير الفردي. في المستوى الأول، نفهم عبارة كارل شميت: «المقولات السياسية الحديثة مثل السيادة والتمثيل مقولات لاهوتية معلمنة»، كما نفهم كيف انتقلت أنماط تدبير الضمير الكنسي إلى جوهر الفعل السياسي الحديث كما بين «ميشال فوكو»، وفي المستوى الثاني نفهم كيف أن النظم القانونية التي تبلورت لفصل المؤسسة الدينية عن المؤسسة السياسية اقتضتها ضرورات الخروج من الحروب الدينية التي مزقت أوروبا بعد مرحلة الإصلاح البروتستانتي ولم تكن في ذاتها معادية للدين بل الغرض منها حماية الدين. وكما هو معروف لكل بلد غربي طريقته الخاصة في ترجمة هذه المبادئ، والفرق واسع بين بلدان تنص دساتيرها على الديانة الرسمية للدولة، وبلدان أخرى تحمي فيها الدولة التقاليد الدينية وتمول فيها العمل الديني الاجتماعي والتعليمي، وهناك دول أخرى (مثل الولايات المتحدة) تتبنى خيار «الديانة المدنية» التي هي نمط من الهوية الجماعية المؤسسة على ديانة عامة مشتركة.
حركات الإسلام السياسي إذ تطالب بأسلمة الدولة الوطنية لا تدرك هذه الأبعاد العميقة، وكل ما تفعله هو تحويل الإسلام الى أيديولوجيا لهذه الدولة، بما يعني نزع الطابع القداسي المطلق فيه وبذا فهي تندرج في سياق علماني ملتبس غير واع.
• في المقال ذاته امتدحت العلمانية، علمانية الغرب تحديداً، كأنما تراها تنبع من الدين ذاته.. من أي فلسفة انطلقت هنا؟ وهل كلامك هذا هو نفس كلام الإمام محمد عبده «وجدت في الغرب إسلاماً بلا مسلمين، وهنا مسلمين بلا إسلام» وإن بشكل آخر؟
•• من يقرأ النصوص الفلسفية الكبرى للحداثة السياسية الأوروبية مثل نصوص سبينوزا وهوبز وروسو وكانط يدرك تلك الحقيقة، أي كون مشروع الحداثة السياسية قام على فكرة ترجمة المضامين القيمية الجوهرية في الدين في لغة العقل العمومي التي هي لغة عقلانية قانونية.
ما يقوله كل هؤلاء هو ما عبر عنه هيغل بضرورة تحويل الدولة الحديثة إلى مطلق يجسد أهداف الدين وتطلعاته في الخير والعدل، ولا شك أن الدولة الليبرالية الحديثة في الغرب نجحت إلى حد بعيد في هذه الأهداف التي هي مقاصد الدين العليا التي قال الإمام الشاطبي إنها مشتركة بين كل الملل وهي جلية ناصعة في الإسلام. ولعل ما يعزى للإمام محمد عبده يدخل في هذا الاتجاه، مع العلم أن رواد الإصلاح الإسلامي مثل الأفغاني وعبده والكواكبي ومحمد إقبال لم يعنوا بموضوع الشرعية الدينية للدولة الحديثة بل وجدوا فيها النموذج الذي يتعين اعتماده لخروج الأمة من الانحطاط والاستبداد والتخلف.
الثورة المحافظة
• في تويتر لا تحضر آراؤك كثيراً، فقط تغرد بمقالاتك وأحياناً تعيد تغريدات تهاجم الإخوان المسلمين مثلاً؟ في اعتقادك ما هو مأزق الإخوان؟ وكيف تحلل تجربتهم الدينية والسياسية؟
•• لا أفهم تويتر بأنه بديل عن المقالات والدراسات، بل هو مجال تواصلي محدود لعرض فكرة أو الإشارة إلى كتاب أو التعليق على حدث. كما أنني لست من كبار المغردين، وإنما أهمل الشبكة فترات طويلة وأعود إليها في لحظات متقطعة متباعدة. أما تحليل تجربة الإخوان وإبراز سلبياتها فأمر يحتاج إلى مساحة طويلة، وقد خصصت للموضوع كتابات وأبحاثاً مستفيضة. وعلى العموم، ما يتعين التأكيد عليه هو أن الأيديولوجيا الإخوانية قامت على خلل جوهري في التصور هو فكرة أدلجة الإسلام من منطلق شعار «الإسلام دين ودولة» الذي هو الشعار الناظم لكل أفكار الإخوان. المشكل في هذا التصور هو إحداث خلخلة خطيرة في التقليد الإسلامي بجعل الدولة شرطا في هوية الدين ومقوما من مقوماته العقدية والتشريعية، والحال أنها مجرد مؤسسة تدبيرية مصلحية تحتكر القوة العمومية وتحفظ السلم والأمن.
الخطأ الكبير في المقاربات الإخوانية هو فهم مصطلح «الإمامة» وهو مصطلح كلامي فقهي بأنه المرادف للدولة الوطنية الحديثة، في حين أنه في دلالاته العقدية العميقة يتعلق بالمثال القيمي الأعلى غير قابل للتجسد سياسيا وفي دلالته التاريخية التي قننتها أدبيات الأحكام السلطانية يتلخص في إمارة التغلب الضامنة للسلم الأهلي، ومن هنا ملاحظة المفكر المغربي «عبدالله العروي» أن الفقهاء كانوا شديدي الواقعية والبرغماتية وحين يتحدثون عن الخلافة يعتبرونها حالة طوبائية تنتمي للماضي ولا يمكن أن تتحقق بأدوات وموازين بشرية. إن هذا الخلل في التصور والفكر هو الذي يفسر الأخطاء السياسية للإخوان الذين ناصبوا الدولة العداء ورفعوا عليها السلاح وانتهوا أحيانا الى تكفير الحكومات والخروج على المجتمعات، بما هو بارز في الكثير من الساحات العربية.
• تساءلت: هل ما نعيشه هو (موت السياسة) حسب تشخيص ريجيس دوبريه، الذي يعرف السياسة بأنها الخروج من الطبيعة ودخول أفق التاريخ؟ وهل نشهد مساراً مضاداً بعودة السياسة إلى الطبيعة أي إلى الهويات الضيقة المغلقة كما يظهر من صعود الاتجاهات والنزعات اليمينية المحافظة؟ هل تشير هنا إلى صعود التنظيميات المتشددة إلى المشهد ورميها أحجاراً كبيرة في عمق المشهد؟
•• الخروج من الطبيعة واستكشاف أفق التاريخ هو المعين الذي انبثقت منه السياسة بمفهومها الحديث الذي يعني بناء حالة إنسانية منظمة عقليا وقائمة على حرية الإرادة وفاعليتها في مقابل الهويات العضوية القبلية مثل العصبيات القبلية والفئوية والعرقية. الفكرة المؤطرة لهذا التصور هي الإيمان بقدرة الإنسان على تجاوز طبيعته الأنانية واختيار هويته الذاتية، والأفق الذي يندرج فيه هو أفق التقدم الإنساني أي الرهان على المستقبل وحركية التاريخ الإيجابية. ما نلمسه اليوم هو بروز «ثورة محافظة» في قطيعة مع قيم التنوير والتقدم تنكص بالإنسان إلى هوياته الضيقة من خلال الأيديولوجيات العنصرية والنزعات الدينية الراديكالية ونظريات صراع الثقافات والديانات. ظاهرة ترمب في الولايات المتحدة وصعود اليمين المتشدد في أوروبا هي مظاهر لهذه النزعات العدمية التي أعتقد أنها ستفشل في نهاية المطاف. ولعل أصدق تعبير عنها هو قول الفيلسوف الألماني بتر سلوتردايك إن الناخبين الغربيين اختاروا هذه الزعامات الشعبوية بدلا من السياسيين التقليديين على غرار مرضى السرطان في مراحله المتأخرة الذين فقدوا الثقة في الطب وأصبحوا يفتشون عن الوصفات السحرية الخارقة وإن كانوا في قرارة أنفسهم لا يصدقون أولئك المشعوذين.
• تقول الدكتورة لطيفة الشعلان: «يبذل البعض (جهدا خرافيا) حتى لا يُصنفوا ليبراليين». ألا ترى أن كل مشكلتنا هي مع الأسماء كمصطلحات؟ هل هناك إسلام ليبراليّ؟
•• الليبرالية مصطلح ملغوم في الساحة العربية خصوصا في الخليج العربي، ولقد ضاعت دلالته عمليا نتيجة للتراشق الأيديولوجي السائد. لا أفهم كيف يمكن أن تتعارض الليبرالية مع الإسلام، باعتبار أن الليبرالية تعني في دلالتها الواسعة (على اختلاف اتجاهاتها ومناحيها) تأكيد الحرية الإنسانية وما يترتب عليها من حقوق ثابتة للإنسان من حيث وعيه وكرامته وملكيته ومشاركته في الشأن العمومي.
بعض المتعصبين يحارب الأفكار الليبرالية باتهامها بالخروج عن التقليد الديني والاجتماعي في حين أن هذا التقليد هو نتاج ممارسة تأويلية تاريخية ولا يتماهى مع الدين في أبعاده المطلقة الثابتة، والبعض الآخر يحارب الليبرالية من منطلق رافض للتعددية الفكرية التي أصبحت واقعا راسخا في المجتمعات المسلمة المعاصرة ولا بد من الاعتراف بها وتنظيمها صونا للسلم الأهلي وحفاظا على الدين نفسه.
الحداثة الثانية
• هل يمكنك أن تفسر لنا وجهة نظرك في انهيار العولمة مع إعجابك الواضح بالثورة المحافظة في الغرب؟
•• لست معجبا بالثورة المحافظة في الغرب، بل كتبت في نقدها واعتبرتها حركية نكوصية غير قابلة للنجاح والاستمرار. ما دامت العولمة هي التعبير التاريخي عن موجة الحداثة الثانية، التي ولدت أنماط عيش وطرق اندماج لم يعد بالإمكان ضبطها بمنطق الاقتصاد الرأسمالي التقليدي وإجراءات الحكامة السياسية السابقة، ومن هنا طبيعة الأزمة المجتمعية العميقة التي تعيشها المجتمعات الصناعية التي لا تزال تدار وفق مسالك وأساليب الحداثة الأولى. وهكذا بدلا من التفكير في إبداع أدوات جديدة للسيادة والتمثيل وأنماط تدبير جديد للجغرافية السياسية وأدوات ضبط للعولمة المالية، برزت الحركات المحافظة الجديدة التي تنزع الى كبح حركية التبادل الكوني وحماية الهويات الوطنية وهي حركات مناوئة للعولمة ولا أظن أنها ستحقق أي نتائج نوعية.
• مع وصول ترمب إلى البيت الأبيض.. ماذا تتوقع للسياسة الأمريكية القادمة؟ خصوصا تجاه المنطقة العربية؟
•• من الصعب التنبؤ بسياسة الرئيس الأمريكي الجديد القادم من خارج المؤسسة السياسية التقليدية، الذي أطلق في حملته الانتخابية وعودا شديدة التعارض. العرب إزاء الرئيس الجديد في وضع مزدوج: الارتياح لانتهاء حقبة «أوباما» التي قوضت ثوابت السياسة الشرق أوسطية الأمريكية (الاعتماد على محور الاعتدال العربي، عزل إيران...) وفشلت في دفع عملية السلام الشرق أوسطية وخذلت الثورة السورية، والخوف من سياسات ترمب الموالية لليمين الإسرائيلي المتطرف والنزعة المعادية للإسلام والمسلمين في بعض تصريحاته وتصريحات فريقه. وعلى العموم لا بد أن ندرك أن النظام السياسي الأمريكي قائم على توازنات دقيقة ومراكز قوة مانعة لأي تحكم فردي، فضلا عن المعطيات الجيوسياسية الموضوعية الحاسمة في صناعة القرار وفي رسم السياسة الخارجية للبلد التي عادة لا تتغير جوهريا بتغيّر أنظمة الحكم.