فعلتها إسرائيل، وبدأت التنقيب في حقل «كاريش»، معتبرة أن زمن إضاعة الوقت مع لبنان قد انتهى، كذلك الأمر بالنسبة لحزب الله، فقد فعلها أيضاً وأرسل ثلاث مسيّرات إلى كاريش ليل السبت الماضي بعدما وجد نفسه محرجاً حين توعد قبل شهر من هذا التاريخ أنه سيمنع الإسرائيليين من التنقيب قبل ترسيم الحدود بين الجانبين، إذ قال أمينه العام حسن نصر الله «أي حماقة تقْدِم عليها إسرائيل ستكون تداعياتها، ليس فقط إستراتيجية، بل وجودية. وما ستخسره إسرائيل في أي حرب تهدّد بها، أكبرُ كثيراً مما يمكن أن يخسره لبنان».
هذا التصريح على الرغم من أنه تهديد جدي وينذر بالحرب في حال تمادت إسرائيل من وجهة نظر الحزب، إلا أن نصرالله يستصعب اتخاذ هكذا قرار، لكنه مجبر في هذا التوقيت بالذات على توجيه رسائله أو مسيراته لأسباب أن حزب الله لا يستطيع رفض ما يطلبه «ولي نعمته» الإيراني، فوجه المسيرات بعدما فشلت جولة المفاوضات الأخيرة التي جرت في الدوحة بين إيران والولايات المتحدة حول الاتفاق النووي، وفي رسالة إيرانية ثانية إلى الإدارة الأمريكية أنها قادرة على توتير الملفات التي تمسك بها.
بمعنى أوضح فقد أراد حزب الله تجديد التأكيد لكافة الأطراف في الداخل والخارج أن إيران ما زالت متمسكة بعدد من الأوراق اللبنانية خصوصاً ورقة حدود إسرائيل الشمالية والغاز العابر من الشرق الأوسط إلى أوروبا، لكن المفاجئ هو الصمت اللبناني الرسمي على خلفية إطلاق حزب الله لهذه المسيرات، إذ اكتفى وزير الخارجية عبدالله بو حبيب بالتقليل من أبعاد الحادثة حربياً وهي من إشارات خضوع الدولة لسطوة الحزب، وهو أمر لن يخدم السلطة أو لبنان الرسمي عربيا ودوليا.
فهل وصلت الرسالة إلى الدولة اللبنانية، وتحديدا إلى الجانب اللبناني المفاوض؟.
الرسالة وفقاً لمصدر سياسي مراقب قال لـ«عكاظ»: إن إرسال المسيّرات يندرج في إطار لعبة الردع، وتجديد السطوة على الدولة بأن قرار السلم والحرب بيد الحزب وحده، أما المسيرات فهي من وجهة نظر الحزب تقوي الموقف التفاوضي اللبناني الذي يمكنه أن يستخدم القوة مع إسرائيل إن احتاج الأمر، بعدما لمس الجانبان الأمريكي والإسرائيلي حاجة لبنان لهذه الثروة، وعدم قدرته على الرفض بسبب أوضاعه الاقتصادية المتردية.
فهل حقاً دفنت الدولة اللبنانية رأسها في الرمال، تاركة لحزب الله حرية اللعب في مسرح المفاوضات؟ خصوصا أن الحزب وإسرائيل تبادلا الرسائل من خلال البيانات المباشرة، حين أعلم الحزب ببيانه أن المهمة المطلوبة أُنجزت، ووصلت الرسالة، والتي قابلها رد من الجانب الإسرائيلي يؤكد فيه أنه تلقى الرسالة ورأى فيها أن الحزب لا يريد مواجهة عسكرية الآن، لكنه قادر على تكرار ذلك الأمر في الأسابيع القادمة.
مصادر سياسية مطلعة قالت لـ«عكاظ» إن حادثة المسيرات أخطر من قراءة الأمر عسكرياً، وما إن كانت ستندلع الحرب بين الجانبين أم لا، خصوصا أن لبنان تبلغ رسميا أي عبر الرؤساء الثلاثة ونائب رئيس مجلس النواب إلياس بو صعب من السفيرة الأمريكية دوروثي شيا رسميا معطيات إيجابية عن التقدم الذي يحرزه الوسيط الأمريكي آموس هوكشتاين بشأن المفاوضات غير المباشرة، وضرب هذه المفاوضات بعرض الحائط من قبل حزب الله الذي وجه العديد من الرسائل، لكن أخطرها هو الرد من داخل لبنان على استهداف إسرائيل لمخازن أنظمة دفاعية تابعة لإيران في جنوب طرطوس، وإن صحت هذه المعلومة التي تسربت عن عمد أو غير عمد من أروقة الحزب، فإننا مقبلون على توتر إقليمي بين كل الأطراف التي تمسك بملف الترسيم اللبناني، وهذا ما ترجمه كلام آموس هوكستين الذي أجرى اتصالات بمسؤولين لبنانيين معنيين بملف الترسيم وطلب توضيحاً، مؤكداً أن هذه الحادثة من شأنها إيقاف جهود التفاوض.
مخاوف إيران وحزب الله من الترسيم
ولفت المصدر إلى أن حزب الله بات الآن المتهم الأساسي من قبل المجتمع الدولي وأنه المعرقل الوحيد الذي يمنع ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل وذلك لسببين:
الأول، أن حزب الله يريد ضمانات غربية واعترافا بدوره مستقبلاً مقابل ما يسمى «بتنازل الترسيم».
والثاني، أن الحزب يخشى الاعتراف من دولة لبنان بالحدود الحالية لدولة إسرائيل، الأمر الذي سيفرغ دوره ودور سلاحه من مضمونه، وبالتالي سيرفع الغطاء عن شرعية سلاحه، وبالتالي السير نحو إلغاء دوره المسلح وأكثر من ذلك، انتهاء بدور إيران في لبنان.
ويبقى السؤال: هل تندلع الحرب؟
الخبير العسكري العميد المتقاعد في الجيش اللبناني أحمد تمساح أوضح لـ«عكاظ» أن قواعد اللعبة ممسوكة بين الطرفين، فمن جهة حزب الله وخلفه إيران لن ينفّذا التهديد بضرب باخرة التنقيب، لأن لبنان لا يمكن أن يتحمل رداً إسرائيلياً مدمرا بحجم حرب تموز؛ لأنه مهترئ اقتصاديا وماليا وسياسياً، وكذلك الأمر في إسرائيل فإن الوضع السياسي متردٍ ولا يمكن الإقدام على عمل عسكري، وبالتالي فإن هذه العملية ليس لها أي ترجمة عسكرية، لأن المسيرات لم تكن تحمل أي ذخائر.
وفي قراءة لرسالة حزب الله بعد العملية قال العميد تمساح: «إن حزب الله استعرض عضلاته أمام بيئته بما يحفظ له صورته، إنه الحريص الأول على ثروة لبنان النفطية خصوصا أوان الجنوب اللبناني هو مسرحه، فاضطر أن يقول لإسرائيل إن هكذا عمل في كاريش يحتاج للموافقة أو الاستئذان منه»، فردت إسرائيل بإسقاط هذه المسيرات، والتنقيب في كاريش لن يتوقف، وبالتالي فإن «الانرجيين» سوف ترسل الغاز إلى أوروبا بأسرع وقت ممكن لأن قرار الاستغناء عن النفط الروسي بات أمرا ضاغطا وملحا، خصوصا أن بوتين مستمر في حربه بأوكرانيا حتى فصل الشتاء من أجل قطع إمدادات النفط. ووفقاً للقرار الدولي الكبير بالاستغناء عن النفط الروسي فلن يتجرأ أي طرف حتى حزب الله على فتح باب عرقلة هذا المشروع.
حزب الله يلعب في مسرح المفاوضات من أجل مصالحه الخاصة، ضارباً بعرض الحائط مسألة المفاوضات التي تعتبر قضية وطنية. وطالما يمتلك الحزب أو يستمد الغطاء الشرعي من السلطة، فإن لبنان وشعبه هم من سيدفعون كما جرت العادة كل ما يترتب من أثمان وفواتير ناجمة عن استهتاره وتبعيته الإيرانية.
ومن أبرز الأثمان التي سيدفعها اللبنانيون في قادم الأيام هو تجميد حقهم في الثروة النفطية لسنوات إضافية حتى لا نقول خسارتها بالكامل، فكل الأجواء تؤكد أننا مقبلون على تجميد فعلي لمفاوضات ترسيم الحدود البحرية، والتي لم تسفر منذ سنوات سوى المزيد من الطروحات والخيارات بين خطي 23 و29، وما بينهما من خطوط منها خط هوف وخط ابتدعه الوسيط الأمريكي آموس هوكستين.