كل شيء تغير بعد كوفيد 19.. هذه حقيقة لا تحتاج الى تأكيد.. وكل ظرف يمر تعي مدى فداحة الوضع الذي يعيشه العالم والتحديات التي يحاول أن يحقق نجاحات من خلالها، وفي حضرة عالم السينما المرتبط بالمهرجانات، التي يعتبر فيها طقس المشاهدة أمر مقدس، تغير المشهد كليا، حتى مع المهرجانات التي قررت إقامة دوراتها مثل مهرجان فينيسيا والجونة والقاهرة، لكن ثمة شيء ينقص دائما، والذي يرتبط بمشهدية الارتياح الجماهيري تجاه شاشة العرض الكبيرة ووضع الكمامات طوال وقت العرض، لكن هذا لا يذكر أمام الشاشة الكبيرة التي تحولت حاليا إلى صغيرة وحتى إلى أجهزة الهواتف النقالة، وهذا تماما ما يحدث حاليا في الدورة 71 من مهرجان برلين السينمائي الذي وبسبب الجائحة قرر إقامة دورته عبر الأون لاين مع 15 فيلما في مسابقته الرسمية وهو العدد الأقل قياسا بدورات فائتة لكنه يحمل أسماء صناع أفلام مهمة، ومن ضمن هذه الأفلام وبعد غياب ثلاثة عقود تشارك لبنان بالمسابقة الرسمية في هذه الدورة عبر فيلم «دفاتر مايا» للمخرجين جوانا حاجي توما وخليل جريج وهو الفيلم الذي سنبدأ في الحديث عنه ضمن مجموعة الأفلام الأولى في المسابقة الرسمية، التي تم بثها عبر الأون لاين، إلى جانب الفيلم الألماني «أنا رجلك» للمخرجة ماريا شرادير، وفيلم المخرج هانج سانجو «تقديم» من كوريا الجنوبية.
يراهن فيلم «دفاتر مايا» للمخرجين الزوجين جوانا حاجي توما وخليل جريج على الدب الذهبي في الدورة 71 من مهرجان برلين السينمائي، ضمن 15 فيلما من أنحاء العالم، وهذا الحضور العربي لا شك أنه مهم، خصوصاً بعد غياب السينما اللبنانية في المنافسة على هذه الفئة لما يقرب 39 عاما بعد فيلم المخرج برهان علوية «بيروت اللقاء»، وما يجمع بين الفيلمين هو موضوع الحرب الأهلية، التي ما زالت تدغدغ مشاعر صناع الأفلام في لبنان لأن جرحها لم يلتئم بعد، والبلاد لم تتعافَ إلى اللحظة.
في «دفاتر مايا» ثمة تجسيد للحرب بشكل مغاير، قرر فيه صناعه أن يحولوه إلى صندوق بيد ساعي بريد يطرق باب بيت محاط بالثلوج في مونتيريال في كندا، بياض الثلج في الخارج لا يشبه كمية الوجع المتشح دائماً باللون الأسود.
ستتعرف في هذا الفيلم إلى مايا وهي أم لفتاة اسمها اليكس، ووالدتها التي تعيش في نفس المنطقة وتزورهما من حين لآخر، والتي تكرر دائما عبارة «تركنا كل شيء وحاولت طول الوقت انسيها، طول الوقت بطبخ وبغسل»، هذه الكلمات التي تخاطب بها حفيدتها التي لا تتقن العربية، وكأن مايا قصدت ذلك، فصحيح أن الصندوق الذي وصل والذي حاولت الجدة إخفاءه، يحمل العديد من الذكريات وبالتفاصيل المؤلمة التي كانت ترسلها مايا وهي مراهقة إلى صديقتها ليزا وتتحدث فيها عن يومياتها في الحرب، لكن ثمة صندوق لا يمكن الوصول إليه وهو الذي يعشعش في الذاكرة، وهذه هي الحكاية.
فضول اليكس (الابنة و الحفيدة) تجاه الصندوق جعلها تتسلل إلى المخزن، هذا الفضول له علاقة بأنها تحاول معرفة أمها بشكل أكبر فهي تشعر دائما أن ثمة حزنا في عيون والدتها لم تعرف سببه أبدا، لكن عملية التلصص التي تحدث خلسة عن والدتها تحول مجريات الفيلم إلى منحى آخر، لتجعلك كمتلقي وكأنك تشاهد فيلما داخل فيلم مصنوع من خلال التطبيقات الذكية في الهواتف، فأليكس قررت تحريك الصور العديدة في الصندوق وتحويلها إلى صور متحركة تضفي عليها المؤثرات التي تسمعها من خلال أشرطة كاسيت قديمة شغلتها عبر جهاز ألعاب أطفال، وهذا الشكل التقني، تم استخدامه كثيرا في السينما وتحديدا الإيطالية، التي ترتبط دائما بآلية تحويل البوم صور إلى فيلم متحرك، ولكن بموضوع الحرب الأهلية فهذه التقنية ضرورة؛ لأنها مختلفة عن الفلاش باك الذي يستخدم أكثر في مثل هذا النوع من الحكايات، وصناع الفيلم أرادوا عمليا أن يبرزوا اليكس كفتاة من الجيل الحديث المرتبطة ارتباطا وثيقا مع هاتفها، وعملوا على توظيف هذا الهاتف بالاتساق مع عقلية الجيل الحديث، وهي طريقة تحسب للمخرجين.
ستعرف اليكس الفرق بين جدها مدير المدرسة الذي فقد ابنه (خالها) في تلك الحرب والذي يصر على مدنية الدولة ويحاول أن يزرع ذلك في عقل طلاب المدرسة، وبين حبيب أمها السابق رجا الشاب الذي إذا أراد أن يحتفي يحمل سلاحه ويطلق الأعيرة النارية، ستدرك اليكس أن الحب الذي جمع بين مايا ورجا لم يثنه عن دخول الحرب.
تفاصيل كثيرة في هذا الفيلم، الذي من غير المنصف الحديث عنها لإعطاء فرصة لمشاهدته عندما ينتهي من جولة المهرجانات، والأهمية فيه بالجزء الذي يفصل بين المشاهد الأولى والمشاهد النهائية، لكن من المنصف الإشادة بأداء الممثلة منال عيسى التي لعبت دور مايا وهي مراهقة، هذه الممثلة استطاعت أن تتصدر المشهد بأدائها المدروس والمتسق مع إدارة صناع العمل للممثلين، الذي ينم عن موهبتها، مقارنة بباقي فريق التمثيل، عملياً هي التي حققت التوازن المرجو بما يتعلق بالتمثيل.
هل يستحق الفيلم الدخول في المنافسة على الدب الذهبي؟... نعم يستحق.