عندما تُنتج؛ حتماً ستفهم خصائص المُنتَج، وتُحسن توظيفه فيما ترسم له من غايات، وما ترومه من أهداف، والمُنتِجُ ربُّ صنعته، وسيّدُ بضاعته وسوقه، والإنتاج قوة، وتحكّم، وعندما نستهلك، تضعف مناعة الفرز، وتتضاءل حاسة المفاضلة بين ضار ونافع، ويكاد لا يُرى الحد الفاصل بين الخير والشر، وربما استسلم جيل لفكرة التسيير لا التخيير.
نوقن جميعاً بأننا لم ننتج ما بين أيدينا من أجهزة ذكية، ولم نضع في أذهاننا احتمال أن نكون ضحايا لما تحتّمه وما تفرضه علينا من أدبياتها وسلوكياتها وعقائدها، ونذعن بكامل اختيارنا لبرمجة الآلة، فنحن لا نقتني ولا نستعمل تقنية فقط، بل نستهلك ثقافة ونسوّقها.
ومن خلال نموذج الهواتف المحمولة، المتوفرة في منازلنا، تغزونا التطبيقات، وتنفتح علينا مواقع الاتصال والتواصل، فنصاب بحالة توحّد ونحن وسط العائلة، وننفرد والأسرة تحيط بنا ولا نراها، ونرى الأب، الأم، الأبناء، البنات، في مجلس البيت بجوار بعضهم بأجسادهم، بعيدين عن المحيطين بهم، لعلوقهم في مشاهدات ظاهرة الرحمة، وباطنها عذاب وتهديد للهوية، ويوماً إثر يومٍ ننأى عن محيطنا الآمن روحياً وذهنياً في صورة من صور الاستلاب.
ولعل أبرز مظاهر الاستلاب تتجلى في انعدام حس المشاركة والتعاون، وغياب قدرة الاعتماد على الذات، والاكتفاء بطلب ما نشتهي وما نطمح لأكله أو لبسه عبر الجهاز ليصل إلينا داخل منازلنا، وتضاءلت أدبيات (الحركة بركة) في غياهب الكسل، وهذا غيض من فيض تهديد الهويات الإنسانية والوطنية والدينية بالتوحش، والانبتات، واللادينية ناهيكم عن التفلت الأخلاقي المحتمل.
ولربما لا يشعر إنسان العالم الثالث البسيط أن جهازه الذكي يجتزئ أثمن الأوقات، فيتأخر أو يؤجل الواجبات دينية أو دنيوية، بل ترى أحياناً مشاهد تثير التساؤلات كأن ينشغل رجل أمن وقت ورديته بمتابعة المقاطع وقراءة الرسائل المتراكمة في تطبيقات جواله، وربما تفعل نفس الشيء ممرضة مسؤولة عن حالات حرجة في المستشفى الذي تعمل به، والطالب والطالبة أثناء المحاضرات يتابعون الصورة ويخفضون الصوت، والأستاذ يشرح وهم منشرحو الخواطر بما يرون لا بما يسمعون، والجوال امبراطور الوقت حين تناول الطعام وعند النوم.
لم تعد البشرية تبني تاريخاً إنسانياً عبر مجتمعات وصولة، بل ترسخ الانفصال بالاتصال، وغدت التقنية ساحة منافسة وتحديات، وانفردت الآلة بالإنسان لتسلبه أحسن ما فيه وتمنحه أسوأ ما لديها، ما يعني تقويض التاريخ المؤنسن، وهدم معايير وضوابط الأنسنة، وتعزيز وتمجيد تاريخ الآلة والجهاز الذي هو في توصيفنا جماد، وأخطر ما في الجماد الذكي تجميد المشاعر وإذابة الحس بالمسؤولية.
ويرى المفكر المغربي عبدالسلام بنعبد العالي في كتابه (في الانفصال) أن الحداثة قامت بتفكيك الاتصال وإبراز ما بداخله من انفصال؛ وعملت على نخر التجذر التاريخي الصلب (الوعي، الهوية، الذاكرة) بإرساء تاريخ الآلة الذي لا يمكن التشبث به لسيولته.